Search This Blog

Tuesday, December 29, 2009

Décès de Anis Sayegh


الصخرة والينبوع

29/12/2009

صقر ابو فخر

من تلال « أم قيس »، عند مثلث الحدود السورية ـ الاردنية ـ الفلسطينية، كان يحلو له ان يتأمل مياه طبرية بحرقة وشجن، ولو حدّق قليلا لرأى مدينته التي ولد فيها وعاش في أفيائها سبعة عشر عاماً. غير انه، في هذه المرة، لم يذهب الى « أم قيس »، فقد وهن قلبه واتعبته آلام العمر، فأناخ راحلته في مدينة عمان ومضى

.

هكذا تطوي الأيام احلامنا، و« تفرفط »، مثل زهر الأقحوان، أوراقنا، وتغمر بصمتها العجيب أجساد الأحبة. فيا للحسرة، خلال سنين معدودة ومنحوسة تناثر جيل مدهش كما تتناثر حبيبات الطلع في كل مكان، وها نحن ما زلنا نودع الواحد من هذا الجيل تلو الآخر.

رحل إحسان عباس في سنة 2003، ثم كرّ خيط الموت : هشام شرابي، نقولا زيادة، محمود درويش، رفعت النمر، شفيق الحوت، محمد يوسف نجم، يوسف صايغ، ومعهم سمير قصير وجوزف سماحة وكمال ناجي وآخرون. وبغيابهم أزدادت الايام وحشة وسواداً، وباتت كالحة مثل سديم الصحارى.

كان أبي

حينما سلمته مقالتين ارسلهما معي من دمشق الدكتور ماهر الشريف والدكتور جورج جبور، فرح كالأطفال، فقد كان يعد كتاباً جميلاً سيهديه الى اسم شفيق الحوت. وفي اثناء ذلك اخبرني ان فحوصه الطبية ليست جيدة البتة، وعليه ان يدخل الى المستشفى بسرعة، لكنه سيؤجل العلاج الى اجازة الميلاد ورأس السنة التي سيمضيها في عمان. وفي يوم سفره هاتفني، وكان صوته مبحوحاً جراء نزلة صدرية اتعبت قلبه، وقال لي : « أنا مسافر الى عمان، وحينما اعود ارجو ان تكون بين يدي مقالات محمود سويد ونصري الصايغ ومحمود محارب ومقالتك أنت، فقد تأخرتم في تسليم ما تعهدتم به »... لقد ظلت اصابعه تعبث بالأقلام والأحبار والمقالات حتى آخر يوم من حياته

.

الثانية عشرة والنصف، ليلة الميلاد، جاءتني مكالمة من عمان. كان على الطرف الثاني رامي شعبان، فاعتقدت ان الدكتور أنيس يرغب في أمر ما. لكن رامي اجهش في البكاء، ولم يستطع ان ينقل إليّ الخبر الدامع بوضوح، ثم دفع بالهاتف الى رفيقة عمر أنيس صايغ السيدة هيلدا شعبان التي تمكنت من ان تخبرني برحيل الرجل الذي صار أبي منذ ان تعرفت إليه قبل ثلاثين سنة... وكان بكاء هنا وبكاء هناك وفي امكنة كثيرة بالطبع. فأنيس صايغ واحد من الكبار اللامعين، بل من القلة القليلة التي انعقدت محبتنا له، ومن النادرين الذين تحلقنا حوله في « الموسوعة الفلسطينية » وفي « اللقاء الثقافي الفلسطيني »، وكان إمامنا في الاخلاق والتواضع والتفاني والالتزام والجرأة والحنو والترفع عن المماحكات اليومية التي أتقنها، أيما اتقان، الفلسطينيون واللبنانيون معا

ً.

رافقت أنيس صايغ قليلا في مجلة « شؤون عربية »، ويوميا في « الموسوعة الفلسطينية »، ولم أنفك عن صحبته طوال الحقبة التي اعقبت ظهور الموسوعة وانتشارها بين الملأ وحتى آخر يوم له في بيروت، وربما كنت من اكثر الناس معرفة به في آخر ربع قرن من عمره. ومن المؤكد ان رحيله كان فاجعة لي بكل ما تعنيه كلمة فاجعة من معنى. ولهذا السبب لن اتجاوز الحقيقة اذا قلت ان أنيس صايغ، وهو الذي ذاق المرارات كلها، كان مراً في سخريته مثل قهوة والده الحورانية (قهوة القسيس)، وقد علّمنا فن السخرية، وكان منعشا للأحلام القومية مثل « ليموناضة » والدته البترونية، وهو الذي انعش أيامنا في بيروت بعد سنة

1982.

واجه أنيس صايغ مآسيه كلها بنبل وفروسية : خروجه من فلسطين ثم موت والدته ورحيل شقيقه منير، ثم موت اشقائه وتعرضه للاغتيال، فموت والده... وهكذا. وفوق ذلك كان في منظمة التحرير الفلسطينية كالمركب الذي يعاند أمواج المحيط : صلبا في مواقفه النقدية مثل صخور الوعر، ونقيا في مبادئه مثل مياه الينابيع. لقد شهد موت الجميع، ولعل شقيقته ماري هي الأكثر صبرا على الألم بعدما لم يبق لها من عائلة القسيس عبد الله أحد.

سيرة بنيامين الطبري

أسمته المبشرة الاميركية ماري فورد، وهي جارتهم في طبرية، بنيامين حينما ولد في 3/11/1931، لانه السابع بين ابناء القسيس عبد الله صايغ، تماما مثل بنيامين آخر ابناء النبي يعقوب. لكنه لم يحمل هذا الاسم إلا ثلاثة ايام، فوالدته رفضت الاسم بشدة، واصرّت على ان يكون له اسم عربي مثل اسماء اخوته. وهكذا صار اسمه أنيساً، وكان مرصودا منذ البدايات لمؤانسة شيخوخة والديه. لكن والدته لم تعش طويلا لتأتنس بأبنائها، وخصوصا بابنها الاصغر أنيس فتوفيت في سنة 1950 لتترك في ولدها وشماً من الألم لم يمح منذ ذلك الزمن

.

في سنة 2004، حينما كنا نرافق جنازة يوسف صايغ الى مثواه الاخير، لاحظت ان الدكتور أنيس وقف عند بوابة المدفن ولم يتقدم الى الداخل إلا بضع خطوات فقط. وقد اكتشفت انه ما عاد يدخل الى ذلك المكان منذ ان غيّب المدفن نعش والدته قبل نحو ستين سنة. وما زالت تلك الذكرى القاهرة ماثلة بقوة في ارتعاشة يده حينما كان يدّون مذكراته فيقول : « انه يوم اسود في حياتي، بل هو أسوأ يوم في حياتي، وسأذكره بوقائعه ولحظاته ما حييت. ففيه جابهت ملاك الموت لاول مرة، فكيف الحال اذا كان هذا الملاك قد خطف اقرب الناس واحبهم إليّ ».

إن سيرة أنيس صايغ هي سيرة الألم الذي حاق بوالده واضناه، فوالده فقد أباه صغيراً، ثم هجر سورية الى فلسطين قسراً في سنة 1925، ثم واجه موت زوجته بتجلد وثبات في سنة 1950، ثم صبر على موت ابنه فؤاد في سنة 1959، وابنه توفيق في سنة 1971، الى ان أراح ركبه في سنة 1974. ومع ان أنيس صايغ تعرض للموت مباشرة حينما أرادت إسرائيل اغتياله بطرد ناسف في سنة 1972 إلا ان لغز الموت وحيرة الوجود لم يبرحا خياله. وقد تعلم من موسى المجادي (ابو دخل الله)، وهو رجل مؤمن من بلدة خربا، ان الموت الرحيم ربما كان حلاً عادلاً لبعض بني البشر. لكنه رفض عدالة الموت، وطالما تساءل : كيف يكون الموت عادلاً وهو يأخذ منا الأحبة؟ فقد بكى بغضب حينما عرف ان أبو دخل الله اطلق النار على حصانه المريض. ولعل تجربته في الطفولة حيال موت الحصان، وتجربته في الكهولة حيال الاغتيال، جعلتاه شجاعا امام الموت، جباناً امام الألم، فهو لا يخشى الموت لكنه كان يخاف إبرة الطبيب.

من حوران إلى فلسطين

قبيل الميلاد غادر لبنان الى دمشق بهويته اللبنانية. وغادر الشام الى الاردن بجواز سفره السوري. ثم عاد الى لبنان ليحمله الفلسطينيون الى مثواه الأخير. انه، إذاً، سوري ولد في فلسطين واستوطن لبنان وتزوج اردنية. لقد كان المثال الحقيقي المعادي للسيدين مارك سايكس وجورج بيكو.

إن تاريخ عائلته هو تاريخ الهجرات الداخلية في بلاد الشام، فمؤسس الأسرة، يوسف الكبير، اصل والده من حمص، وقد استقر به المقام في السويداء، وعمل في الصياغة وامتلك أراضي ومنزلا ومجوهرات أورثها ابنه الوحيد عبد الله. لكن عبد الله (القسيس) خسرها كلها حينما أُرغم على النزوح الى فلسطين في اثناء الثورة السورية، ولم يلبث ان هجر فلسطين الى لبنان في سنة 1948. لذلك لم يكن غريباً ان يلتحق هو وبعض اخوته (فايز ويوسف) بالحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم تحولوا الى العروبة بعد صعود جمال عبد الناصر عقب تأميم قناة السويس في سنة 1956.

أنيس صايغ ابن القسيس الذي لم يذهب الى الكنيسة منذ سنة 1955، وكان في طفولته يعد الى المئة بدلا من قراءة « أبانا والسلام ». وقد اكتشف شقيقه فايز ان أنيس يكرر كلمة « بطاطا » مئة مرة في اثناء الصلاة، وكان يفضل بيضة مقلية وصحن بطاطا على المدرسة. إن هذه الروح الساخرة والمحببة ظلت تغمره طوال عمره، وكان بارعاً في السخرية اللطيفة وغير المدببة. ولعل تهذيبه الكبير ورقيه المشهود منعاه من البوح بأسرار كثيرة وردت في مذكراته التي اصدرها في سنة 2006، فأشار إليها من غير ان يذكر الأسماء، لانه كان منصرفا الى رواية الحدث، ولا يعنيه أمر الأشخاص حتى الذين اساؤوا إليه

.

في احدى جلساتنا المنفردة باح لي بما اخفاه في مذكراته. ويحق لي الآن، ان ازهو بأنني صرت اعرف من هما اللذان طلبا من أنيس ان يكتب لكل منهما رسالة جامعية، واحدة للماجستير في التاريخ، والثانية للدكتوراه في الاقتصاد، وهذان صار احدهما استاذاً للعربية في احدى الجامعات الاميركية، والثاني احتل منصبا كبيرا في البنك المركزي اللبناني. وصرت اعرف كذلك من هو الفلسطيني الذي سطا على كتاب أنيس صايغ « الهاشميون والثورة العربية » وقدمه في احدى الاذاعات في خمسين حلقة وكأنه من تأليفه. ومن هو الصحافي اللبناني الذي سرق مخطوطة كتاب فايز صايغ عن الدبلوماسية الصهيونية ونشرها في « النهار » على حلقات باسمه. ومن هو الكاتب المصري الذي كان ينشر مقالات يهاجم فيها مجلة « حوار »، وكان في الوقت نفسه ينشر في « حوار » مقالات في الدفاع عنها بتوقيع زوجته. ومن هو الذي أراد الاعتداء على منح الصلح بالعصا. ومن هما الباحثان اللذان اختلفا في ليبيا على لون زجاجة البيرة في لبنان. ومن هو المسؤول في مطار بيروت الذي رفض شحن مجلة « شؤون عربية » من المطار لكنه قبل رشوة لتسهيل ذلك. ومن هو الباحث الذي نشر في الشهر نفسه بحثين منفصلين بتوقيعين مختلفين رأى في احدهما انه لولا مساندة الجيش العراقي لسورية في حرب 1973 لكانت دمشق سقطت، ورأى في ثانيهما ان دخول القوات العراقية الى سورية لم يكن له فائدة تذكر.

رحل أنيس صايغ ليلة الميلاد، قريباً من فلسطين وبعيداً منها في آن. كانت اكثر الكتب تفضيلاً لديه هي كتب الرحلات وكتب السيرة. وها هو قد كتب سيرته ورحل. وكان عليه ان ينهي جمع فصول الكتاب الذي سيهديه الى صديقه شفيق الحوت، مثلما فعل حينما اصدر مع الدكتور محمد المجذوب كتابا عن قسطنطين زريق على نفقتهما الخاصة. ومن المؤكد ان هذا الكتاب سيصدر، وسنتنكب، نحن أصدقاءه، هذه المهمة عنه، وسيبقى أنيس صايغ امام أعيننا الأب والصديق والأستاذ الذي تعلمنا على يديه في « الموسوعة الفلسطينية » البحث العلمي، وهو الذي دفعنا كي نتعلم على قسطنطين زريق وإحسان عباس ونقولا زيادة التفكير النقدي والفهرسة وقراءة التواريخ، وفوق ذلك كله ـ وهو الأهم ـ التواضع والأنس والدماثة والعيش المترع بالجمال والأمل (بقدر ما تتيحه الاحوال)، وهي عناصر اجتمعت لهؤلاء الذين ذكرناهم وغابوا عن أعيننا، لكنهم بتألقهم العلمي وتواضعهم الأدبي ما زالوا في صدورنا وفي عقولنا كأروع الامثلة الإنسانية في هذه البيداء العربية المترامية.

http://www.aloufok.net/spip.php?article1215/


No comments: