Search This Blog

Wednesday, January 06, 2010

Dr Abdel Majid Najjar



بسم الله الرحمن الرحيم

خارطة الطريق للمرحلة المقبلة

الدكتور / عبد المجيد النجار. أستاذ جامعي، باريس

يمكن القول إنّ انتهاء موسم الانتخابات الماضية ينبغي أن يكون افتتاحا لمرحلة جديدة من مراحل الحياة السياسية والاجتماعية في تونس، وبقطع النظر عما تمت به تلك الانتخابات وبالطريقة التي تمت بها، وبالنتائج التي انتهت إليها، فلم يعد الخوض فيها يجدي كثيرا، وإنما المجدي هو أن يتجه النظر إلى المرحلة المقبلة. أما أن الخوض فيها لم يعد يجدي كثيرا، فلأنها لم يكن فيها ما هو استثنائي بالنسبة لما قبلها، وهو ما يضعف كثيرا استفادة العبرة منها. وأما أن المجدي هو الخوض فيما بعدها فلأن المستقبل هو الذي نملك بعض أوراقه، فنستطيع التأثير فيه بعض التأثير، وتوجيهه بعض التوجيه.

بعض المراحل التي أعقبت انتخابات سابقة كان فيها شبه بمراحل ما قبلها إلى حدّ التطابق أحيانا، ولكن المرحلة المقبلة لا تتحمل أن تكون كذلك بالنسبة لما قبلها بقطع النظر عن التقييم المعياري لهذه المراحل السابقة، وذلك على الأقل لثلاثة أسباب رئيسية.

أولها ما يبدو من أن فترة من الحكم في السياق الجمهوري مشرفة على النهاية كما تقضي به الإلزامات الدستورية، وهو ما من شأنه أن يدعو أهل القرار إلى صياغة حوصلة لربع قرن من الحكم لتسليمها إلى عهد جديد يديره آخرون بمقتضى سُنّة التداول بسبب تقدم الأعمار على الأقل، فيكون التواصل إذا سليما من الهزات المربكة، وكل ذلك يستلزم من الاستحقاقات ما هو فارق بين ماض ومستقبل.

والثاني، أنّ الجيل من الشباب الذي نشأ خلال الثلث قرن الأخير وهو القوة الأكبر في البلاد قد لا يكون في المرحلة المقبلة مستعدا لتقبل بعض الأوضاع التي استقرّ بها الحال زمنا طويلا في مجال الإعلام أو في مجال الحريات العامة على سبيل المثال، خاصة وأن هذا الجيل يشهد في العالم وربما في الجوار القريب تغيرات في هذه المجالات بوجهة إيجابية أسرع بكثير مما يقع في تونس، فإذا لم يحصل تغيير في المرحة المقبلة يطمئن إليه هذا الجيل فإن ذلك قد يكون سبب اضطراب سياسي واجتماعي تضرمه قوّة الشباب، ويؤسّس لمرحلة من الفوضى لا يكون وضع تونس قادرا على تحمّلها.

والثالث، أنّ تونس كما هو شأن بلاد أخرى كثيرة مقبلة على مواجهة تحدّيات كبيرة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك نتيجة لإكراهات العولمة في شتى المجالات، وللأزمة الاقتصادية العالمية الضاربة، وهذه التحديات لا تستطيع تونس مواجهتها بما يضمن الانتصار عليها إلا بتضامن وطني يشمل جميع الفئات والاتجاهات والقوى المدنية، وهو ما يستلزم تغييرا حقيقيا في نمط تعامل السلطة الحاكمة مع هذه القوى والفئات في اتجاه انفتاح حقيقي وشراكة سياسية جدية تحكمها المصلحة الوطنية العليا، وتقطع مع الحسابات الحزبية الضيقة.

إن هذه الأسباب التي من شأنها أن تفضي إلى مرحلة جديدة تكون إضافة متطورة بالنسبة للمرحلة السابقة، ومن شأنها أن تضمن تواصلا مطمئنا للاستقرار المنتج ولكن على أسس من التراضي والوفاق هي مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف الفاعلة في الساحة التونسية، وعلى رأسها طرفا السلطة من جهة والمعارضة من جهة أخرى بقطع النظر عن تفاوت حجم تلك المسؤولية فيما يتحمله هذا الطرف أو ذاك، وذلك خلافا لما يتجه إليه البعض من تنصّل من كلّ مسؤولية في هذا الشأن، والإلقاء بها كاملة على الآخرين، ولما يدّعيه البعض من وفائه المكتمل بما يجب القيام به في المراحل السابقة واللاحقة.

لا يمكن للسلطة أن تسلك في الإدارة السياسية والاجتماعية في المرحلة القادمة ذات المسالك التي سلكتها في المراحل السابقة دون تطوير، إذ مهما ادّعى بعض ممثليها من رشد في ذلك أثناء الحملة الانتخابية وقبلها فإن الحقيقة في ذاتها متمثلة في خلل مقدّر في بعض المجالات سوف تفرض نفسها في إنتاجها للآثار السلبية غير مبالية بالادّعاءات القولية التي تدّعي الرشد الكامل، وتنكر الخلل في هذا المجال أو ذاك من مجالات التصرّف السياسي والإداري، وذلك وفق قانون أنّ الخطأ إذا كان حاصلا في الواقع وعومل بالنكران ولجحود فإنه يؤثر سلبا في حال نكرانه بأعنف مما يفعل في حال الاعتراف به وإظهار النية في علاجه.

لا يعدم المشاهد من جيل الكهول أن يرى في الساحة التونسية ممارسات لم يتغير شكلها ولا محتواها عما كان عليه الأمر في الستينات من القرن الماضي، وذلك مثلما هو الأمر في الدعاية الإعلامية التي تسوّق بها وسائل الإعلام النجاحات وتحشد بها الأنصار، وهو الأمر الذي أصبح محلّ غمز من قِبل الكثير من التونسيين الذين تسمح أعمارهم بالمقارنة مع الماضي " الستيني" داخل البلاد، أو تسمح لهم ثقافتهم بالمقارنة مع الحاضر خارجها، ولكنه غمز تختزنه النفوس ليتحول بالتراكم إلى استقالة سلبية يائسة، أو إلى نفوس متشنجة ناقمة.

والمسار الذي سارت فيه السلطة خلال المرحلة السابقة في العلاقة مع المعارضة هو أحد الملفات الأساسية التي تتطلب تغييرا في المرحلة المقبلة؛ فقد كانت تلك العلاقة قائمة على اضطراب دائم تجاوزت مساحته المعارضة غير المعترف بها لتشمل بعض المعارضة المعترف بها، وهو الأمر الذي كان سبب توتّر مستمرّ لئن عاملته السلطة باللامبالاة باعتبار ما هي فيه من موقع القوة فإن استمراره من المؤكّد أنه سيتطور إلى إرباك للوضع العام ليهزّ الاستقرار ويضرّ بمسيرة التنمية أيما ضرر.

لم يعد مقبولا والعالم الثالث يتغير بسرعة نحو الديموقراطية الحقيقية أن تبقى الإدارة الحزبية والسياسية في تونس مهما كان من مبررات تاريخية وإنجازية هي البوابة التي تملك بإطلاق رخص المنح والمنع لقيام الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني على أساس الموالاة ، أو تعمل على ترويض من تظهر عليه علامات الاستقلال مما هو قائم منها لينخرط في سياقها بطرق ظاهرة وخفية، فإذا كان البعض من تلك المبررات الإنجازية صحيحا على صعيد الواقع كما هو ثابت في بعض مجالات التنمية غير أن هذا الإنجاز المقدّر لا يمكن أن يكون مبررا لتكريس التخلف عن ركب الأجوار في مجال الحريات العامة والشراكة السياسية الحقيقية ونحن نعبر إلى العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، ولا يفيد في هذا الشأن شيئا أن تتتالى التصريحات والدعايات الإعلامية بأن الأمر في هذا المجال يسير هو أيضا على أحسن ما يرام، فالحقيقة حينما تنتهك بالتجاهل أو الإنكار فإنها سرعان ما تنتقم لنفسها بطرق قد لا تكون في الحسبان.

وبإزاء التحديات التي تواجه البلاد في المرحلة المقبلة فإن تجاهل أية قوة من قوى المجتمع وأي أطر من إطاراتها بالاستثناء أو الإقصاء من الإسهام في مواجهة التحدي بسبب الخلاف السياسي أو بأي سبب آخر ليس من شأنه إلا أن يكون عامل ضعف في التصدّي للمشكلات المتربصة، وفي هذا الصدد فإن استبعاد آلاف من المعارضين من ذوي الكفاءات في الخارج والداخل من أن يكون لهم دور في البناء من موقع المشاركة أو من موقع المعارضة الآمنة الفاعلة لا يمكن أن يفهم إلا على أنه خلل استراتيجي صارخ في تحشيد الأسباب من أجل الانتصار في معركة التحدي التي قد نشبت وقد تستمرّ زمنا غير قصير، وإذا ما استمر الأمر على ما هو عليه فماذا يبقى من مصداقية للشعار الجميل الذي رفع خلال الحملة الانتخابية " معا لرفع التحدي" إلا أن ينضاف هو أيضا إلى مناط للغمز حينما تقوم المقارنة بين الشعار المرفوع وبين الواقع الجاري؟

إن السلطة هي التي تملك المفاتيح الفاعلة في كل ما سلف، باعتبار أنها هي التي تملك القرار، وهي التي بيدها زمام المبادرة، وهو ما من شأنه أن يضخّم من مسؤوليتها لتكون عند أي خلل مستقبلي له صلة بهذا الأمر ـ وكل المستقبل له صلة به ـ أمام مساءلة التاريخ، كما ساءلها التاريخ في العهد السابق على تصرفات ماضية بان خطؤها لاحقا وهي الآن مناط نقد من السلطة الحاكمة نفسها، فوجدت نفسها عند الامتحان في حرج شديد، وإذا ما تكرر الأمر فإن التاريخ قد لا يتسامح مرتين، فيفتح إذن باب الفتنة التي هي أشدّ من القتل.

غير أنّ السلطة لئن كانت مسؤولة عن الماضي والمستقبل بالقدر الذي وصفنا فإن المعارضة هي أيضا تتحمّل بعض المسؤولية عن العهدين، وهو ما يفرض عليها مراجعة لتصرفاتها في الماضي، واستشرافا جادا للمستقبل.

لقد ظلت المعارضة طيلة العهد الماضي تتذمر من أن السلطة لا تتجاوب مع مطالبها في فتح أبواب الحرية والمشاركة السياسية وما يتعلق بهما من توابع، وقد تكون في ذلك على حق، إلا أن السلطة إذا كانت تتحمل المسؤولية عن عدم الاستجابة لهذه المطالب المشروعة بالقدر المطلوب فالمعارضة تتحمل هي أيضا قسطا من المسؤولية في هذا الشأن لعدم قدرتها على إقناع السلطة بمطالبها.

ما ظنك بمعارضة متشرذمة لا تكاد تتفق على شأن حتى ينتقض اتفاقها بالحسابات الحزبية الضيقة، وبالحساسيات الشخصية بين الزعامات إلا أن تكون ضعيفة في عين خصمها لا يلقي لها بالا في ميدان التدافع السياسي الذي تحكمه قوانين الأوزان. وما ظنك بمعارضة سمتها العام الصفوية النخبوية، يكاد العمق الشعبي لا يعرف لها اسما فضلا عن أن يكون منخرطا في برامجها ورؤاها إلا أن تعامل باللامبالاة مهما كان لها من وجود صارخ على صفحات الانترنات.

وما ظنك بمعارضة يكاد برنامجها يقتصر على مطلب الحرية على نفاسته ووجاهته وضرورته دون أن يرفق بمقترحات تفصيلية لحل المشاكل اليومية التي تعترض سير الحياة في جوانبها المختلفة إلا أن يضيع نداؤها بتلك المبادئ العليا المشروعة في خضمّ ضجيج إنجازات يومية تقوم بها السلطة مهما كان من اختلاف في تقييم تلك الإنجازات.

وما ظنك ببعض من المعارضة جعلت هدفها الأساسي إعلانا أو ضمنا إزاحة النظام الحاكم عن سدّة الحكم إلا أن تكون بذلك قد سدّت عن خصمها أبواب التواصل لسماع المطالب مجرد سماع، وجعلته ينزع إلى النزال للحفاظ على النفس بما يختلط فيه أحيانا الصواب بالخطإ مهما علم النظام الحاكم من فقدان هذا الصوت المناوئ فقدانا يشبه أن يكون تاما لعناصر القوة التي تكون بها الإزاحة، ولكن تُعدّ العدد وربما يقع الشروع في الهجوم الوقائي على سبيل الحيطة والحذر كما هو الشأن في كلّ المنازلات وإن تكن مدنية الطابع.

ليس من شكّ في أن أغلب القضايا التي تنافح عنها المعارضة قضية حق وعدل بوزن مقدّر، وليس من شكّ في أن هذه المعارضة أو على الأقل أكثر أطيافها كانت خالصة القصد في تحقيق مطالبها المشروعة، ولكن تحقيق المقاصد ليس رهين عدالتها في ذاتها أو صدق نوايا أصحابها، وإنما هي أيضا رهينة البراعة في الدفاع عنها، وأحسب أن المعارضة لم تكن المحامي الناجح في الدفاع عن مطالبها، وهو ما يستلزم أول ما يستلزم تجاوز العيوب والمشاكل الداخلية التي تجعل منها كيانا ضعيفا في مطالبه المشروعة، كما يستلزم التغيير في أساليب الدفاع في اتجاه ما يقنع الخصوم بأن المصلحة كل المصلحة بما فيها مصلحتهم هم أنفسهم هي في السماع لتلك المطالب، وفي التعامل معها بالجدية الكافية التي تنتهي إلى قبولها ولو بالتدريج.

وإذا كانت المعارضة بصفة عامة تتحمل بعض المسؤولية عن الوضع السابق وعن المسار المستقبلي فإن أحجام هذه المسؤولية تتوزع بحسب نسب الأحجام في أطياف المعارضة، وفي هذه الحال فإننا نجد حركة النهضة على رأس القائمة في هذا الشأن، فمسؤوليتها عن الماضي والمستقبل أكبر من مسؤولية غيرها من فصائل المعارة لما تدّعيه من حجمها الشعبي مستشهدة بآخر انتخابات شاركت فيها، ولما تدّعيه أيضا من مبدئية تستمدها من مرجعيتها الدينية التي لا تقبل المساومة.

لقد كان لما استشعرته حركة النهضة من ظلم سلّط عليها خلال التسعينات وامتدت آثاره بعد ذلك الأثر الكبير على فعالية الأداء المرتقبة منها، بحيث يمكن القول إن أداءها خلال العشريتين الماضيتين لم يحقق من أهدافها القريبة ولا البعيدة شيئا معتبرا حينما يُرى رصيدها البشري والمعنوي قد تآكل خلال تلك الفترة فارتدّت إلى الوراء بالنسبة لما حققته خلال العقدين الأولين من نشأتها.

لا شك أن الظرف الموضوعي الذي مرّت به الحركة كان في الذروة من القسوة على صعد مختلفة كما هو معلوم، وهو الأمر الذي أثّر بالغ الأثر على نفسيتها الجماعية فضلا على نفوس أفرادها متمثلا بالأخص فيما يشبه أن يكون قد انطبع في تلك النفس الجماعية من شعور جارف بالمظلومية بما يوشك أن يتحول إذا لم يتحول بالفعل إلى " ثقافة المظلومية"، وهو ما كان له الأثر السيئ على التوجه إلى المستقبل لتعميره بالمبادرات بسبب الانشداد إلى الماضي لتحسّس الأوجاع وتلمّس الآلام دون أن يكون لعامل الزمن فعل يذكر في تحويل الوجهة من الماضي الأليم الذي لم تعد تملك من أمره شيئا إلى المستقبل الذي قد يكون في يدها بعض مفاتيح توجيهه.

ولعل من أبرز ما يدل على هذا الارتهان للماضي الأليم والالتفات عن المستقبل الآتي ما تمثل طيلة الفترة الماضية وإلى هذه الساعة في الكثير من المواقف الرسمية للحركة أقوالا وبيانات وتصرفات من روح غلابة تنزع إلى التشكي من الظلم ولعن الظالمين، وإلى انتهاج نهج المغالبة والتحشيد من أجلها، فإذا هي سيرة طويلة تكرّس للهدم ـ هدم ما يُرى باطلا ـ وأما البناء من أجل المستقبل فقد كانت حصيلته تلامس الصفر إلا في الحالات النادرة، وهكذا انتهى الأمر إلى وضع من العطالة في الفعل واستعيض عنها بإنجازات في القول لا تغني في ميزان التقدم شيئا، مع ما يصاحب ذلك من شعور خطير بما يشبه الرضى عن النفس باستشعار أنّ الإنجازات قائمة حتى وإن كانت إنجازات كلامية.

ولك أن تقف على هذا المعنى جليا فيما ينشر في الصحافة التي تمثل النفس الجماعية للحركة من بيانات ومقالات ومجادلات فإنك إذن ستجد الكم الكبير من الزفرات التي تلعن الظالمين وتسفّه أحلامهم وتتفنن في نحت النعوت المحقرة لهم، وهو الأمر الذي قد ينفق فيه الشيخ الوقور أو الكاتب الحاذق المقالات تلو المقالات في سلاسل متلاحقة ثم يقف الأمر عند ذلك الحدّ إلى حين استنفاد مخزون القذف للآخرين، وحينئذ فإن الآلة تستدير على نفسها لتشرع في طحن ذاتها فلا تراعي في الأخوّة إلاّ ولا ذمّة. أما محاولة البناء بالمبادرات والدراسات والشهادات العلمية والمشاريع والأفكار لتقع بها منازلة الخصوم على ساحة المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الساحة الوطنية فلا أثر لها في اهتمام النفس الجماعية للحركة إلا قليلا.

إنها ثقافة الهدم ـ هدم ما يرى باطلا وأحيانا هدم ما هو حق دون وعي ـ استولت على النفوس فأغفلتها عن استشراف البناء للمستقبل، وعن السعي الجدي إلى توفير أسباب ذلك نفسيا وواقعيا بالتوفّر من خلال التوافق على موطئ قدم في ساحة الفعل الوطني بالقدر الذي يكون متاحا حتى وإن كان دون المأمول، وإذا لم يُستشرف البناء فإنه عند الانتهاء من هدم الباطل إذا كان مقدورا عليه تكون الكارثة، والتجارب في ذلك ماثلة حية في الواقع الراهن للحركات الإسلامية وغير الإسلامية.

وبالإضافة إلى هذه العطالة عن البناء المستقبلي التي انتهت إليها ثقافة المظلومية في مسيرة حركة النهضة، فإنّها أفضت أيضا إلى عجز عن التقييم الذاتي لمسيرة الماضي، وكيف يكون ذلك التقييم والنفوس يكبّلها الشعور بالظلم، والفكر مستغرق في تحسس المواجع والآلام، ولم يتمكن من أن يكسر هذا الطوق لا فقه الدين فيما يتضمنه من مبدإ الاحتساب انتظارا للثواب، ولا فقه الواقع فيما يفرضه من التجاوز من أجل المصلحة، وهكذا عجزت الحركة عن أن تجلس مع الذات في لحظة صدق تحاسب فيها نفسها بصرامة عما يمكن أن تكون قد اقترفت من خطإ، ثم إن لم تنشره للناس كاملا لما عمّت به البلوى في عالم السياسة من النفاق فلا أقلّ من أن تنشر منه ما يدعو إلى اطمئنان الآخرين المتشككين من الشركاء في الوطن، وتقف منه في كلّ الأحوال في حقّ نفسها موقف الاعتبار بتقدير حقيقي لما لها وما عليها، وما للآخرين وما عليهم، ليكون من هناك الانطلاق الجديد للخروج من أسر الشعور بالمظلومية إلى العطاء، ومن الانتظارية إلى المبادرة، ومن الهدم إلى البناء.

ومما يؤسف منه أنك بدل هذه المراجعة الصادقة مع الذات ترى المضيّ قدما إلى حدّ الآن في اتّجاه مخالف، حيث تصدر التصريحات والمواقف متتالية تكرّس نفس المسار السابق بقطع النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها لقناعات عموم قواعد الحركة رأيا عاما وقرارات رسمية، فإذا هو تصعيد للتدافع في اتجاه الصدام، وإذا هي آمال غير مبرّرة بأنّ الحراك الشعبي بانت بوادره لينتهي إلى الخلاص من النظام القائم، ومن تلك البوادر التي يضرب بها المثال إرهاصات مجاعة توشك أن تنشب في أرض الوطن لتعجّل بذلك الخلاص. لقد كانت العشريتان الماضيتان من السنوات الكالحات ثمرة مرّة لسوء التقدير للواقع ومفاعيله القريبة والبعيدة، وها هو سوء التقدير بسبب الانطباعات غير الواقعية يوشك إذا ما استمرّ أن يصنع عشريتين أخريين من ذات الابتلاء إلا أن يتدارك الله برحمته.

إن مجمل المشهد الذي كان سائدا في المرحلة الماضية بأطرافه المختلفة، وبالعلاقات بينها، وبمواقفها في معالجة المشاكل ومواجهة التحديات لا يمكن أن يكون هو المشهد المستقبلي للأسباب التي ذكرناها سابقا؛ فتلك الأسباب تتطلب مسارا جديدا في العلاقات بين الفرقاء، هو مسار الوئام الوطني الشامل الذي تلتقي فيه كل الأطراف على كلمة سواء، هي كلمة المصلحة الوطنية العليا، وذلك ابتداء بحركة حوارية عقلانية جادة، تلغي أول ما تلغي منهج التنافي المتبادل الذي لا يكون إلا بابا لحصاد مرّ: تعطيلا لطاقات التنمية، وإغراء بتدخل قوى خارجية في الشأن الوطني الداخلي. ثم يقيّم فيها الوضع القائم تقييما صحيحا يكون خاليا من المكايدة والمزايدة والأوهام، كما يكون خاليا من الغشّ والتدليس، فيحدد إذن بكامل الموضوعية ما هو إنجاز حقيقي ليبنى عليه، سواء نُسب ذلك الإنجاز إلى النظام الحاكم أو حالت مكابرة البعض دون ذلك فيُنسب إلى الشعب، كما يحدد ما هو ثغرات ونواقص ليتجه العمل نحو مواجهة التحديات فيه.

ويقتضي هذا الوفاق من بين ما يقتضي إتاحة الفرصة الحقيقية من قبل أهل القرار لكافة الفرقاء كي يسهموا في البناء الوطني سياسة وثقافة واقتصادا مع ما يتطلبه ذلك من الآليات والوسائل، كما يقتضي من المعارضة أن تتجه في منازلة الخصوم إلى تقديم الرؤى والأفكار والمشاريع بدل الاقتصار على الهدم والنقض، وإلهاء العقول وإهدار الطاقات في تتبع العورات وإرسال المقذوفات، مع الاحتفاظ بحق النقد البنّاء لما يُرى من الأخطاء.

ولا شك أن هذه المسؤولية تتقاسمها الأطراف بحسب ما تملك من زمام المبادرة، وهو ما يجعل النظام الحاكم في الطليعة، فعليه أن يمدّ أيدي الوفاق واضحة صريحة ثابتة، وأن يطابق في ذلك بين الأقوال التي جرت بها بعض التصريحات والخطب الرسمية من قبل رئيس الدولة وبعض المسؤولين فيها، وبين الأفعال التي بقيت متعثرة متشككة، فالحسم بالخطوة الأولى في هذا الموضوع مع ما يقتضيه من إجراءات ممهدات هو من مسؤولية النظام الحاكم لأنه وحده القادر عليه، وحينئذ فإنه سيكون له الحسنى في تغيير مسار من الفرقة دام سنوات ولم يكن حصاده إلا الخسارة للجميع إلى مرحلة من الوفاق الوطني الذي تدعّم به المكاسب وتعالج به أوجه القصور.

وإذا كان من حق المعارضة بل من واجبها أن تناضل من أجل المبادئ، وأن تنبه إلى مظاهر الخلل، وأن تعرض وتعارض ما ترى من مسالك الخطإ في التصرف في الشؤون العامة، إلا أنه لا يجزئها أن تكتفي بالشكوى، وأن ترفع عقيرتها بالتنديد بالمظالم، بل عليها أن تقدّم البديل في وضوح استدلالي مقنع في تفاصيله وليس في مجرد مبادئه، وعليها أن تتيقن في ذات نفسها أن ما تنادي به من مبادئ كبرى مثل مبدإ الحرية هي مبادئ راسخة في ثقافتها حالاً، وسيكون لها مصداق واقعي في تصرفاتها مآلا حتى يكون لدعوتها وقع في القلوب، والحال أن الإشارات في هذا الشأن داخل تنظيمات المعارضة بل وفي أطروحات بعضها لا تبشر بخير كثير.

إذا كان الماضي قد تحمّل بعض التحمّل مع خسارة فادحة ذلك التوتّر الشديد بين سلطة حاكمة تمارس التضييق على الخصوم تضييقا لصيقا متكئة على ما تملك من أسباب القوة وعلى ما تدّعي من تحقيق إنجازات، وبين معارضة تنافح عن المبادئ ولكنها تكتفي في كثير من الأحوال بالشعارات دون تقديم البديل المقنع، وتنتهج منهج المغالبة التي تصل إلى حدّ المناداة بالرحيل والعمل من أجله، فإن المستقبل قد لا يتحمّل ذلك، إذ هذا المسلك لا يكون له مآل إلا التطور نحو الصدام، والتحديات ليس من طبيعتها أن تمهل المتخاصمين حتى ينتهوا من خصوماتهم، وإنما تفعل فعلها السالب باستمرار، وإذن فلا طريق لمواجهتها إلا الوفاق الوطني الشامل، تلك هي خارطة الطريق الآمنة كما نراها من موقع النقد لمجمل المشهد وفي صميمه نقد الذات، ولكنه فيما نحسب نقد استشرافي مبلّغ إلى المستقبل الذي تكون فيه تونس عزيزة قوية بجميع أبنائها دون استثناء. والله تعالى ولي التوفيق.

Tunisnews 31 .12 . 2009

No comments: